LightReader

جينكولتار

Ruba_Sc
7
chs / week
The average realized release rate over the past 30 days is 7 chs / week.
--
NOT RATINGS
68
Views
VIEW MORE

Chapter 1 - جينكلوتار 1

جينكولتار

Greated by ruba salkini

جينكولتار

الفصل الأول

حلمٌ أَم حقيقة

لم يكن الليل مختلفًا عن سواه، سوى بهدوئه المريب...

البيت غارق في سكونٍ ثقيل، لا يُكسره إلا دقات ساعةٍ حائطية قديمة، تتأرجح عقاربها وكأنها تتنهّد.

في الطابق العلوي، كانت ربى مستلقية في سريرها، تُحدّق بالسقف، لا تنام... لا تُفكّر... فقط تُصغي.

هناك شيء... في الأسفل.

خطوات خفيفة... بطيئة... لا يمكن أن تكون من أحد أفراد العائلة، فهم نائمون جميعًا، أليس كذلك؟

شهقت بصمت، حين سمعت الطاولة الخشبية تصدر صوتَ خشخشة، كما لو أنّ أحدهم جرّها قليلًا...

ثم... صمتٌ من جديد.

وفجأة...

شقّ سكون الليل صوتٌ حادٌ مفزع!

صرخة مدوّية... قادمة من الغرفة المجاورة.

كانت أمّها... تصرخ من نومها وكأنها رأت شيئًا مرعبًا في حلمٍ حيّ، كأن كابوسًا جرّها إلى مكانٍ مظلم ولم يُفلتها بعد.

ربى تجمّدت في مكانها، قلبها يقرع كطبول الحرب، وعيناها اتّسعتا وهي تهمس:

أيُّ ظلٍ داهمَ حلمَها، حتى مزّق صمت الليل بهذه الصرخة الوحشية؟"

تسارعت خطوات ربى نحو غرفة أمها، وقلبها لا يزال ينبض بعنف، كأنّ شيئًا في صدرها يحاول الهروب.

فتحت الباب بخفة، فرأتها جالسة على السرير، وجهها شاحب، يكسوه العرق والخوف، تتنفس بصعوبة وكأنها خرجت تواً من معركة مع الموت.

اقتربت ربى وهمست بقلق:

ـ أمي... هل أنتِ بخير؟ ما الذي حدث؟

نظرت إليها الأم بعينين غارقتين في الذهول، ثم ابتسمت ابتسامة باهتة وقالت:

ـ أنا بخير يا حبيبتي... مجرّد كابوس لا أكثر. عودي إلى غرفتك، كل شيء على ما يُرام.

رغم اضطرابها، أطاعتها ربى، وعادت أدراجها ببطء. وما إن أغلقت باب غرفتها خلفها، حتى عاد الصمت يخيّم مجددًا... لكنه لم يدم طويلاً.

بدأت تسمع همسات... خافتة... كأن أحدهم يهمس باسمها من خلف الجدران.

ثم تبعتها أصوات خبط خفيف... شيء ما يلمس الباب، يحاول فتحه...

ثم صوت خطوات... خطوات بطيئة... تقترب.

تجمدت ربى في مكانها، أنفاسها متقطعة، نظراتها تتنقّل بين زوايا الغرفة، تصارع الشك والوهم.

وفجأة، انفتح الباب ببطء... وظهرت أمها تحمل الغطاء بين يديها.

ـ نسيتِ غطاءك يا ربى... الجوّ بارد هذه الليلة.

تناولت الغطاء منها بصمت، بينما عقلها يصرخ: "هل كانت كل تلك الأصوات... من خيالي؟"

جلست على سريرها، تلفّ نفسها بالغطاء المرتجف، لكن جسدها لم يهدأ.

ظلت عيناها مفتوحتين، والدمعة محبوسة في زاوية عينها، وكل ما يدور في عقلها سؤال واحد:

"إن كان كل ذلك خيالًا... فلماذا أشعر أنني ما زلت تحت المراقبة؟"

انكمشت ربى في سريرها تحاول التمسك بأي خيط من الأمان، لكن شيئًا ما بدأ يشدّها... شعورٌ غريب، لا يُشبه الكوابيس، ولا اليقظة.

كان هناك قوةٌ خفيّة... لا تُرى، تسحبها من الداخل، كأن شيئًا في قلبها يُجبرها على الركض نحو المجهول.

ـ ما هذا؟ ما الذي يجري؟!

همست لنفسها، بينما قدماها تتحركان من تلقاء نفسيهما، والهواء من حولها أصبح أثقل... أبرد... وكأنها خرجت من عالمها إلى عالمٍ آخر.

وفجأة، وجدت نفسها في ممرّ ضيّق، مظلم، تحيطه أبواب كثيرة... وكلها مُغلقة.

نظرت حولها برعب، لتراهم يقفون أمامها... ثلاثة أجساد غريبة، صامتة، تنظر إليها بنظرات جامدة.

واحدة منهم كانت أقصرهم، أشبه بطفلة صغيرة، لكن ملامحها لم تكن بريئة.

الثانية كانت اطول قليلا ..وجهها شاحب، مائل إلى الرمادي، عيناها كبيرتان سوداوين تلمعان في الظلام، يحيط بهما ظلّ قاتم يوحي بالتيه.

ضفيرة طويلة تتدلّى على جانب كتفها الأيسر، تلتفّ كحيةٍ خامدة، وجسدها نحيل كأن العظام فقط من يحملها.

، والثالث أطولهم، لكنهم جميعًا كانوا يحدّقون بها في صمتٍ خالٍ من الرحمة.

أرادت الهروب... لكن الباب كان مُحاطًا من كل الجهات، كأن لا مفرّ، كأنها سُجِنت في بعدٍ آخر لا ينتمي للعالم.

وفجأة...

ظهر وجه رنا، أختها، في المنام... واقفة بجانبها، تنظر بذعر.

اقتربت الطفلة ذات العيون السوداء بخطى بطيئة، حتى أصبحت على بُعد أنفاس من ربى، ثم همست بصوتٍ غريب، حادّ ومُشوش:

ـ "بابا قالي الساعة عشرة..."

وفجأة...

استيقظت ربى من النوم، وهي تلهث، وجهها مغطى بالعرق، ويدها ترتجف بجنون.

قلبها يدق كأنّه سيخرج من صدرها، ونظراتها تائهة، لا تدري إن كانت ما زالت هناك... أم أنّها حقًا عادت.

رفعت يدها تمسح جبينها المرتجف، وهمست بخوف:

"هل كان منامًا؟ أم نداءً من شيءٍ لا يزال ينتظرني؟..."

لم يمضِ سوى لحظات على استيقاظ ربى، حتى شعرت بأن الغرفة لا تزال تختنق بذلك الصمت الثقيل، الصمت الذي لا يُشبه الراحة... بل يُشبه الترقب.

نهضت من سريرها ببطء، كأن الأرض تُمسك بقدميها، وأذناها ما زالتا تهمسان بذلك الصوت الغريب: "بابا قالي الساعة عشرة..."

نظرت إلى الساعة المعلّقة على الحائط...

عقاربها متوقفة... على العاشرة تمامًا.

شهقت ربى بصوت خافت، وسرت رعشة باردة على طول عمودها الفقري.

ـ مستحيل... أنا متأكدة أنها كانت تعمل البارحة...

اقتربت منها، حاولت تحريكها... بلا فائدة. لا صوت، لا حركة.

ثم... سمعَت صوت خربشة خفيفة، آتية من خلف الباب.

صوت أشبه بأظافر تجرّ نفسها على الخشب... ببطء.

تراجعت خطوة للوراء، حبست أنفاسها، علّها توهم نفسها بأن الصوت لا وجود له.

لكن الصوت استمر.

خش... خش... خش...

رفّت ستارة النافذة رغم انعدام الهواء، وكأن شيئًا مرّ من جانبها.

ثم سُمِع صوت وقع خفيف... كأن جسماً صغيرًا سقط على الأرض خارج الغرفة.

ربى تقدّمت بخطى مرتجفة، يدها تلامس مقبض الباب، فتحت الشقّ الصغير...

وما رأته جمد الدم في عروقها.

دمية... صغيرة... بعيونٍ سوداء... ضفيرة ملتفّة حول عنقها، مُلقاة أمام الباب.

ربى شهقت وتراجعت إلى الوراء. لم تصرخ، فقد ابتلع الخوف صوتها.

كل ما استطاعت فعله هو أن تُغلق الباب بسرعة، وتضغط ظهرها عليه، وقلبها يقرع كأن أحداً يطرق عليه من الداخل.

همست لنفسها بشفاه مرتجفة:

"إن كان ذاك منامًا... فلماذا بدأ يتسلّل إلى الواقع؟"

ربى حاولت جاهدة أن تتخطى كل ما مرّت به، حاولت أن تُقنع نفسها بأن ذلك كان مجرّد كابوس، أو ربما شيء من خيالها.

لكن كلما حاولت إبعاد الأفكار، كلما عادت أكثر قوة، وكأنها تسحبها نحو نقطة مظلمة في عقلها.

خرجت من منزلها بخطوات ثقيلة، محاولة أن تنفض عن نفسها كل ذلك التوتر.

لكن عندما وصلت إلى الشارع، رأت المحل الذي كانت تمرّ بجانبه كل يوم...

في النافذة كان يعرض مجموعة من الألعاب القديمة، ومن بينها دُمية خشبية كانت تبكي في صمت.

ثم، وفي تلك اللحظة، بدأ صوت خافت يتسلّل من المتجر.

أغنية...

نغمات تُشبه التهويدة الروسية القديمة، التي كان الأجداد يهمسون بها لأطفالهم قبل النوم، لتريحهم وتغمرهم في عالم الأحلام.

لكن هناك شيئًا غريبًا في هذه التهويدة، شيء مُرعب... شيئًا يجعل شعر رأسها يقف.

"اغمض عينيك الآن... ثمة من يمشي في الخارج، ويدق على الأبواب الآن... إنه في داخل البيت."

تجمّدت ربى في مكانها، قلبها ينبض بعنف كما لو أن الكلمات نفسها تلاحقها.

أغمضت عينيها للحظة، محاولة أن تُبعد عن ذهنها الصور والذكريات المشوّشة.

ثم فُتحت عيناها، وعادت تلك الأغنية تملأ أذنيها، وكل كلمة منها كالسيف يُمزق صمت الشارع، يتردد في قلبها...

لكن، بعد لحظات، تلاشت الأغنية كما لو كانت حلماً عابرًا.

شعرت براحةٍ لحظية، وكأنما العاصفة التي كانت في قلبها قد هدأت قليلاً.

لكن ما إن أكملت خطواتها لتعود إلى طريقها، حتى بدأت تلاحظ شيئًا غير طبيعي.

أعمدة الإنارة في الشارع كانت متلألئة بخفوت، وكأنها توشّك على الانطفاء... ورغم الهدوء الذي يسود المكان، كانت كل خطوة لها على الرصيف تصنع صوتًا غريبًا، كأن الأرض نفسها لا تحتمل ثقلها.

وبينما كانت ربى تسير، بدأ شيء ما في صدرها يشير إلى أن هناك شيئًا آخر ينتظرها.

لكن هذه المرة لم يكن الصوت صادرًا عن مكان بعيد... بل كان قريبًا جدًا، خلفها تمامًا.

و بينما كانت ربى تسير في الشارع، أحست بشيء غريب يتبعها. كان الصوت خفيفًا في البداية، كما لو أن خطواتها تَرافقها، لكن سرعان ما بدأ يقترب أكثر، كأن شخصًا آخر يسير خلفها.

التفتت بشكل سريع، لكن لم تجد أحدًا. كان الشارع فارغًا تمامًا، وكأن الزمن قد توقّف للحظة.

أخذت نفسًا عميقًا، وحاولت إقناع نفسها بأن ذلك مجرد خيال، شيءٌ تسبّب فيه خوفها الزائد من الليلة الماضية.

لكن الصمت الذي كان يحيطها أصبح أعمق، وأشعرها بثقل في قلبها.

ثم، وبينما كانت تهم بالتحرك مجددًا، شعرت بشيء غريب على رقبتها. كانها لمست شعرة باردة تتساقط على جلدها، وتبعث ارتجافة في جسدها.

أزاحت ربى يديها بسرعة، لكن ذلك الإحساس كان لا يزال يلازمها، وكأنها لا تزال تلمس شيئًا غير مرئي.

ثم فاجأها صوت ناعم جدًا، وكأن أحدًا يهمس في أذنها:

ـ "لا تفرّين، أيتها الصغيرة."

توقّفت ربى في مكانها، وهي تشعر كما لو أن عروقها توقّفت عن العمل.

كان الصوت قريبًا جدًا، لكنه غير مادي. كان يهمس في قلبها، في عقلها، كما لو أن شيئًا آخر كان يتصل بها بشكل لا إرادي.

فجأة، اختفى الصوت كما ظهر، ولم يبقَ سوى سكون مخيف.

حاولت أن تُكمل سيرها، لكن قدميها كانتا كأنهما ملتصقتان بالأرض.

كلما تحركت خطوة، شعرَت وكأن شيءًا ثقيلًا يُسحبها نحو مكانٍ مجهول، وكأن هناك قوة خفية لا تريد لها أن تبتعد.

ثم، وفي تلك اللحظة، بدأ يشقُّ الصمت صوتٌ آخر، لكنه ليس غريبًا. كان صوتًا مألوفًا... صوتًا يناديها.

"ربى... تعالي هنا."

كانت تلك نبرة صوت والدتها، لكن الصوت كان متداخلًا مع همسات غريبة، وكأن شيءً ما كان يُغيره، يشوّهّه.

بلا تفكير، ركضت نحو الصوت، متجهةً نحو منزلها.

عندما دخلت، شعرت بدفء الغرفة من حولها، كما لو أن العالم الخارجي لم يكن موجودًا.

أغلقت الباب خلفها، وأخذت نفسًا عميقًا. لكن رغم ذلك، لم تستطع التخلص من تلك الهواجس. كانت تردد في نفسها:

هل كنت أحلم؟ أم أن هذا كان شيئًا حقيقيًا؟

لكن بينما كانت تعود إلى مكانها المعتاد في المنزل، شعرت بشيء ما يلمس يديها، وكأن هناك شبحًا آخر يلوح في الأفق.

ثم سُمع صوتٌ خافت، ثم زال... كأن كل شيء عاد لطبيعته. لكن ربى، رغم هدوء المكان، كانت تعلم في أعماقها أن هناك شيئًا ما لم يُقل بعد.

بعد كلّ ما حدث، لم أعد أحتمل الصمت. كان الخوف يتمزق بداخلي كصرخة مكتومة، فاقتربت من والدتي وجلست إلى جانبها، نظرت إليّ بعينين تحملان القلق والحنان، فتنفّست بعمق وبدأت أسرد عليها كلّ ما جرى.

حدّثتها عن الأصوات، وعن الكابوس، وعن تلك الكائنات التي رآها قلبي أكثر ممّا رأته عيناي. كنت أرتجف كلما استعدتُ تفاصيل المشهد، ووالدتي تستمع بصمتٍ متوتر.

ثمّ قالت بصوت خافتٍ هادئ:

"يا ربى، لا تقلقي. سأحاول أن أجد من يساعدنا. لا بدّ أنّ هناك من يفهم في مثل هذه الأمور."

أخرجت هاتفها، واتصلت بشخص تعرفه، وبصوت خافت قالت:

"السلام عليكم... هل لي أن أسألك شيئًا؟ هل تعرف شيخًا يمكن الوثوق به؟ نمرّ بأمرٍ غريب وأحتاج إلى من يرشدنا."

كان الصوت على الطرف الآخر هادئًا، ثمّ ردّ بثقة:

"نعم، أعرف شيخًا صالحًا، رجل كبير في السنّ، حكيم، ويلجأ إليه كثيرون. سأكلمه وأرتّب موعدًا لكم."

لم تمضِ ساعة حتى اتصل مجددًا، وقال:

"لقد حدّدت معه موعدًا في الساعة الثامنة مساءً. سأصطحبكما بنفسي."

أخبرتني أمي بذلك، وقالت بصوت هادئ:

"أعدِّي نفسك، سنذهب إليه هذا المساء. لا تخافي، ربّما يكون هذا هو الحل."

مرت الساعات التالية بهدوءٍ يشبه النسيان. تناولنا طعام الغداء، ساعدتُ والدتي في ترتيب البيت، جلستُ قليلًا في غرفتي أرتّب أفكاري، وقرأتُ بعض الصفحات من كتاب قديم.

وعند الساعة الخامسة مساءً، طرق أحدهم الباب.

فتحنا، فإذا بالرجل الذي تحدثت إليه والدتي قد جاء لزيارتنا.

جلسنا معًا، وكان وجهه يحمل ملامح الطمأنينة.

قال بصوته الواثق:

"الشيخ الذي ستزورونه يُدعى الشيخ أبو مهدي. رجلٌ وقور، له هيبة يلمسها كل من يجلس أمامه. لا يستخدم سوى القرآن والأدعية. لا تراه يتكلّم كثيرًا، ولكنّ كلماته تصيب القلب مباشرة."

ثمّ أردف قائلًا:

"كثيرون لجأوا إليه، وعادوا مطمئنين. لا تخافوا، هو لا يفتح أبوابه لأيّ أحد، ولكنّه وافق على رؤيتكم، وهذا أمرٌ نادر."

كنتُ أنصت إلى كلّ حرف، وكلّما تحدّث عنه أكثر، شعرتُ بشيءٍ من الرجاء يتسلل إلى داخلي، وكأنّ في هذا اللقاء المرتقب بداية لفهم ما يحدث... وربّما، لنهاية الخوف.

مرّت الساعات ثقيلة كأنّ الزمن يمشي على أطراف أصابعه. حاولت أن أبقي نفسي منشغلة بأيّ شيء، لكن في داخلي، كان الخوف ساكنًا لا يتحرّك، فقط يراقب بصمت.

قُبيل الساعة السابعة والنصف، وقفنا جميعًا، بدأنا نجهّز أنفسنا. وضعت وشاحًا خفيفًا على كتفي، نظرت إلى وجهي في المرآة للحظة، كانت عيناي زائغتين كأنّ النوم لم يعرف طريقه إليّ منذ أيام.

خرجنا من المنزل، واستقلّينا السيارة بصمت، وحده صوت المحرّك كان يقطع الهدوء الثقيل. جلس الرجل في المقعد الأمامي، ووالدتي إلى جانبه، أما أنا فجلست في الخلف، أحدّق من النافذة كأنّي أبحث عن إجابات في ظلمة الطريق.

وفجأة، ضغط الرجل على زر الراديو.

انطلقت موسيقى هادئة... لكنها لم تكن كأي موسيقى.

صوت طفولي رخيم بدأ يهمس عبر المذياع:

"أغمض عينيك الآن...

ثمة من يمشي في الخارج...

ويدقّ على الأبواب الآن...

إنه في داخل البيت..."

تجمّدت ملامحي، ارتجف قلبي، وبدأت دموعي تنهمر دون إرادة. ارتفع صدري وهبط كأنّ الهواء اختنق في رئتي.

قالت والدتي بقلق:

"ربى، ما بكِ؟"

حاولت أن أرد، لكن الكلمات لم تخرج. فقط همست:

"أرجوك... أوقفها..."

نظر الرجل في المرآة، وبدون سؤال، أطفأ المذياع.

قال بلطف:

"هل كل شيء على ما يرام؟"

أجبت بصوت مكسور:

"نعم... فقط... لم أتحمّل اللحن."

ساد الصمت بعدها، حتى وصلنا إلى المكان المقصود.

توقفت السيارة أمام منزل قديم، جدرانه مصبوغة بلونٍ ترابي باهت، والباب الخشبيّ الكبير بدا كأنّه شهد آلاف القصص. كان الظلام قد بدأ يبتلع السماء، ولم تكن هناك أضواء كثيرة في الحي.

نزلنا من السيارة، تقدّم الرجل وطرق الباب ثلاث طرقات بطيئة، فتح لنا شابٌ صغير في السنّ وأشار بالدخول.

دلفنا إلى الداخل، عبَق المكان برائحة البخور الثقيلة، وكان الممرّ طويلًا ومضاءً بمصابيح خافتة تميل إلى الصفار. على الجدران، وُضعت آيات قرآنية مكتوبة بخطّ اليد، بعضها بدا قديمًا ومهترئًا.

تقدّمنا أكثر نحو الغرفة الداخلية، ومع كلّ خطوة، كان داخلي يضجّ بعدم ارتياح غريب... لا أعرف لماذا، لكن شيئًا ما في هذا البيت لم يكن يُشعرني بالأمان.

الفصل الثاني

ابوابٌ لا تُفتح

جلسنا في غرفة صغيرة تتوسطها سجادة خضراء قديمة، تتناثر فوقها حبات مسبحة طويلة. كان الشيخ قد دخل دون أن نشعر، ظهر فجأة من خلف ستارة ثقيلة تفصل الغرفة عن الممر، رجل في أواخر الخمسينات، طويل القامة، ذو لحية بيضاء وعينين تشعّان بحدّة غريبة.

قال بصوت منخفض لكنه ثابت:

"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... من منكم ربى؟"

رفعت رأسي إليه ببطء، وقلت بتوتر:

"أنا."

اقترب مني بخطى هادئة، جلس أمامي، ثم نظر إلى والدتي وقال:

"هل هي من بدأت ترى؟"

أجابت والدتي بحذر:

"منذ عدة أيام... الأمور تتكرّر، والرعب لا يزول..."

أغمض الشيخ عينيه لحظة، وضع يده اليمنى على صدره وقال:

"اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد... يا فتّاح، يا علّام الغيوب."

ثم التفت إليّ وقال:

"قولي لي، ربى... ماذا رأيتِ؟ من البداية."

ابتلعت ريقي، وبدأت أروي له كلّ شيء: من صرخة أمي، إلى الحلم الغريب، إلى أصوات الأبواب والجن الثلاثة، حتى التهويدة التي سمعتها في السيارة.

كان يصغي بدقّة، لا يقاطعني، حتى أنهيت حديثي.

ثم رفع رأسه وقال:

"ما رأيتِه ليس من نسج الخيال فقط... هناك شيء ما يحاول الاقتراب."

ارتجف قلبي، ونظرت إلى أمي وقد تجمّدت ملامحها.

أضاف الشيخ بهدوءٍ مريب:

"لكن لا تخافي... لن أترككِ وحدكِ مع هذا الباب."

ثم نهض وقال:

"سأبدأ بالتحصين... الليلة فقط البداية، وغدًا سيكون هناك اختبار صغير."

نظرت إليه بعدم فهم، لكنّه قال بابتسامة لم أفهمها جيدًا:

"سترين."

جلس الشيخ على الأرض، أخرج من جيبه قطعة قماش صغيرة، فتحها برفق، وبدأ بوضع أشياء لم أستطع تمييزها: حبوب سوداء، أوراق يابسة، وقطعة حجر صغيرة. ثم همس بكلمات لم أفهمها...

صوته كان خافتًا لكنه كثيف، وكأنّ كل تمتمة كانت تفتح بابًا في مكانٍ خفيّ.

"رمّا... تالوم شيفا... آكْرَلْ نا..."

كان يتمتم بنغمٍ متصاعد، وفي كل مرة يكررها، كنت أشعر بحرارة غريبة تحيط بجسدي، كأنني أُسحب من الداخل.

ثم فجأة، توقف. نظر إلينا وقال:

"ابقوا هنا... سأعود."

دخل غرفة داخلية وأغلق الباب وراءه. ما إن غاب حتى نظرت إلى أمي وهمست بخوف:

"أنا... لا أشعر بالارتياح. هناك شيء غريب في هذا المكان."

هزّت رأسها وهي تحاول أن تُظهر الطمأنينة، وقالت:

"ربى، هذا شيخ معروف، لا تفكّري كثيرًا."

لكن قلبي لم يكن يهدأ، وكل صوت خافت كان يشعل داخلي نارًا من الخوف.

عاد الشيخ بعد دقائق، وجهه بدا متغيرًا، عيناه أكثر اتساعًا، وملامحه بدت متشنجة... كأن شيئًا خفياً بدأ يسكنه.

قال بصوتٍ حادّ:

"لا يمكننا الانتظار حتى الغد... قد لا يُسمح لنا بذلك."

ثم نظر إليّ نظرة طويلة، وأكمل:

"يجب أن نبدأ الآن."

وقفنا خلفه بينما قادني عبر ممرّ ضيق داخل البيت، لم أكن أعلم أنّه موجود. في نهايته، كان هناك باب حجري عتيق، تغطيه نقوش غريبة وكأنها تئنّ بالصمت. مدّ يده ببطء، فتح الباب وهو يتمتم من جديد...

"فورِل نَخْ أوساما... تالا نيم..."

حين انفتح الباب، انبعثت رائحة ترابية ممزوجة بشيء لا أستطيع وصفه... كأنّ الموت قد علق في الهواء منذ قرون.

دفعني للدخول دون أن ينبس بكلمة.

كانت الغرفة باهتة، جدرانها حجرية تتقشر، مغطاة بطبقات من الغبار الأسود، تتدلّى من السقف حبال متهالكة، وأعشاب يابسة، وخرق قماش ملطخة بلون بني غامق.

في الزوايا، وُضِعت جرار طينية مغطاة بعظام صغيرة، وعلى الأرض دوائر مرسومة بخطوط فحمية ملتوية، كأنها طقوس محرّمة.

وفي الركن الأبعد، وُضعت دمية غريبة بوجه ممدود وعينين كبيرتين سوداويين، وشعرها مضفور بضفيرة واحدة تميل إلى اليمين، تمامًا كالبنت التي رأيتها في الحلم...

شعرت بأن الهواء في الغرفة يختنق، وبأنّ الباب خلفي بدأ يُغلق...

وهناك... في تلك اللحظة، أدركت الحقيقة المُرعبة: الشيخ لم يكن كما ظننا. شيءٌ في ملامحه، في نبراته، في تلك الغرفة التي كأنها انتُزعت من عالم آخر... شيءٌ جعل الرهبة تتسلل إلى عظامي.

تراجعت ببطء، أنظر حولي، قلبي ينبض كطبل حرب... حتى وقع بصري على جسم طويل مغطى بقماش أسود في زاوية الغرفة. بدا ساكنًا، كأنه ينتظرني.

تقدّمت نحوه بتردد، يداي ترتجفان... مددت أصابعي المرتبكة وسحبت القماش ببطء شديد...

مرآة.

مجرد مرآة طويلة، قديمة، خشبها متآكل وإطارها يئنّ من الغبار.

لكن ما إن انكشف سطحها، حتى أحاطت بي طاقة سوداء، كثيفة، خانقة...

كأن شيئًا ما قد تحرر.

ارتعد جسدي، وشعرت بأنّ البرد تسلل حتى نخاعي.

ندمت.

ندمت لأنني كشفت الغطاء. ندمت لأني أتيت. بل ندمت أنني فتحت عيني هذا الصباح.

"أمي... أبي..." همست، لكن صوتي لم يخرج.

صرخت. بكل ما أملك من قوة. ولم يسمعني أحد.

كأنني سُحِبت إلى بعدٍ آخر لا صوت فيه ولا نجاة.

نظرت في المرآة من جديد، أحاول أن أفهم، أن أتمسك بشيء... أي شيء.

لكن انعكاسي كان غريبًا، باهتًا... وكأنني لا أنتمي له.

حدّقت أكثر... أكثر...

وهناك... كانت واقفة خلفي.

هي.

تلك الطفلة المرعبة، بعينيها السوداوين الكبيرتين، وضفيرتها المائلة، ونظراتها اللامبالية...

نظرت إليّ من خلال المرآة فقط، لم تكن في الغرفة... لكنها كانت حاضرة تمامًا.

ابتسامتها اتسعت ببطء.

ثم رفعت يدها الصغيرة وأشارت بصمت إلى ساعة قديمة في الغرفة، معلّقة على الحائط المتشقق.

الساعة كانت تشير إلى التاسعة والنصف.

همست بصوت خافت، بارد، كأنّه يخرج من حفرة مظلمة:

"بابا قال لي... الساعة العاشرة."

ثم... اختفت.

كما ظهرت.

وحدي بقيت هناك، بين المرايا والرماد... والخوف.

ارتجفت أطرافي، وأنا أحاول أن ألتقط أنفاسي وسط هذا الرعب المتجسّد. لم أعد قادرة على التمييز بين الواقع والوهم، وبين نفسي والمرآة... حتى سمعت صوت أنين خافت يأتي من زاوية بعيدة في الغرفة.

استدرت ببطء، وهناك... رأيته.

شاب في الثلاثين من عمره تقريبًا، شاحب الوجه، عيناه غائرتان كأنهما لم تريا النور منذ سنوات، شعره فوضوي يصل لكتفيه، ملابسه قديمة ومتسخة، وكأنّ الزمن نسيه هنا.

رفع رأسه بصعوبة، نظر إليّ بنظرات مثقلة بالوجع وقال:

"أنا... عالق هنا منذ سنوات، لا أعرف كم مضى بالضبط. دخلت هذا المكان ظنًا أنّه خلاص، فإذا به قيد لا ينكسر."

"حاولت الهرب مرارًا، لكن كل الطرق تؤدي إلى نفس الغرفة... نفس الظلال."

"كلما اقتربت الساعة من العاشرة، يحدث شيء... شيء لا أفهمه."

"رأيتهم أيضًا... الكائنات التي تُراقبنا. يبتسمون وكأنهم ينتظرون لحظة ما."

"أنتِ محظوظة... لأنك لم تري بعد وجه الحقيقة كاملة."

نظرت إليه بعينين دامعتين وقلت بصوت مرتجف:

"أنا لا أريد أن أبقى هنا... لا أريد أن أرى أكثر

تحذير خطير...

لا تعبث بما لا تفهمه.

لا تفتح هذه الصفحات قبل الساعة العاشرة ليلًا.

أقسمنا أن لا ندوّن إلا لمن تجرأ أن يرى... ويسمع... ويشعر.

إن قرأتها قبل الموعد، فأنت تعرض نفسك للخطر.

لن تحميك الأبواب، ولن تنقذك النوافذ، ولن يصمت من يراقبك من وراء الجدران.

الساعة العاشرة... كل شيء يبدأ، وكل شيء ينكشف.

اقرأ بعدها، فقط بعدها... إن كنت مستعدًا.

[الساعة 10:01 مساءً]

صوت خطوات بطيئة على السقف.

صرير باب يفتح وحده، رغم أن لا أحد قربه.

نفس ساخن على رقبتي، ولم يكن أحد خلفي.

المرآة تعكس شيئًا ليس في الغرفة.

الهواء أصبح ثقيلاً، وكأنّه يحمل كلمات لم تُقال بعد.

صرخة بعيدة... لا تُشبه أي صوت بشري.

والساعة لا تزال تتحرك... نحو العاشرة وعشرة.

الهواء ازداد برودة. شعرت كأن أنفاسي تتجمد في صدري، والظلام حولي صار أكثر كثافة، كأنه حيّ… كأنه يراقبني.

المرآة ما زالت هناك. نظرت فيها مجددًا، وأنا أرتجف. لم يكن انعكاسي فقط...

ظهرت يد خلفي، طويلة، نحيلة، سوداء... مغطاة بما يشبه الرماد المحترق، تمسح على كتفي ببطء.

استدرت بخوف، لا أحد. نظرت إلى المرآة... اليد لا تزال هناك.

صرخة خافتة ترددت في الغرفة، لا تُشبه صوتي، ولا حتى صوت امرأة… كان صوتًا مشوّهًا، كأن أحدهم يصرخ من تحت الأرض.

تقدمت خطوة... الأرض تحتي تصدر صوت طقطقة خافتة، ثم فجأة

انفتحت الأرض ببطء تحت قدمي، ليس حفرة، بل كأنها فم عملاق، يتنفس، يشهق، وينتظر أن أهبط داخله.

أسرعت للوراء، فارتطمت بشيء. شيء دافئ… حيّ… تنفّس على عنقي.

رفعت رأسي ببطء، كانت فتاة صغيرة… لا، لم تكن فتاة… كانت شيئًا صغير الحجم، مشوه الملامح، بشعر مضفّر على جانب واحد، وعيون سوداء لا قاع لها.

همست بصوت رخيم، كأنّه من عالم آخر:

"أنت تأخرت... البابا قال الساعة عشرة... والآن تأخرتِ..."

اقتربت أكثر، وأنا أرتعش، أحاول أن أصرخ، ولا صوت يخرج.

بدأت الجدران تُصدر طقطقة، وكأنها تنهار من الداخل.

رأيت خيالات تتحرك على الجدران… وجوه بدون أعين… أفواه تفتح وتغلق بصمت…

الساعة على الجدار دقّت: العاشرة وخمس عشرة دقيقة.

ثم سُمِع صوت خطى ثقيلة… شخص قادم من آخر الرواق… يجرّ شيئًا معدنيًا على الأرض.

اقترب الصوت، اقترَب… وصوت الهمسات في أذني ازداد وضوحًا:

"لن يخرج أحد... الباب أُغلق منذ قرون..."

"أنتم من فتحتموه..."

"عليكم الآن أن تبقوا..."

نظرت إلى الأرض… الدم بدأ يتسرّب من تحت الباب الحجري…

والفتاة التي تشبه الدمية البشعة… ابتسمت.

ورفعت يدها ببطء نحو عينيّ، وقالت:

"لن ترين النور مجددًا…"

ثم… الظلام التام.

صمت مطبق.

لكن العيون التي تراقب… لم تُغلق بعد.

في أعماق تلك الغرفة الكئيبة، حيث لا صوت سوى أنفاسي المتقطعة، ولا ضوء إلا انعكاس المرآة المشؤومة، وقفتُ متسمّرة أمام الفراغ. البرد يزحف إلى عظامي، والرطوبة تلفّ جسدي ككفن. ظلال تتحرك على الجدران، كأن المكان يتنفس من غضبٍ دفين.

شعرت أنني مراقبة. لم أعد وحدي، حتى وإن لم أرَ أحدًا. تلك البنت... ذات الابتسامة الباردة والعينين السوداوين، كانت هنا، خلفي... خلف الجدران... داخل المرآة... في أنفاسي. ارتجفت، شعرت وكأن طاقتي تُسحب منّي شيئًا فشيئًا.

الغرفة بدأت تضيق. الجدران تقرّبت، والسقف بدأ يهبط. همسات تملأ المكان، تهمس بلغات لا أفهمها... ولكنني كنت أسمع اسمي بينها.

"ربى... ربى... حان الوقت..."

صرخت، لكن صوتي ارتدّ إليّ مشوهًا، كأن المكان يبتلع الصراخ. جلست على الأرض، ارتجف جسدي بالكامل.

وفجأة... فتح الباب الصخري ببطء، وظهر هو. الشاب الذي التقيته سابقًا. كان شاحب الوجه، عيناه غارقتان في سوادٍ لا قاع له. نظر إليّ بصمت، كأنه فقد كل قدرة على النطق.

اقتربت منه، وخاطبته بارتباك:

– أيها الغريب... أما زلت حيًّا؟

لم يُجب. جلست بجانبه، مدت يدي إليه.

– اسمعني... نحن في مكان لا يرحم. إن بقينا، لن نكون نحن، سنفقد أنفسنا، وسنصبح ظلًّا لهذا الرعب.

رمقني بنظرة خالية، ثم همس بصوت مكسور:

– حاولت... حاولت مرارًا... هذا المكان لا يسمح بالخروج...

قبضت على يده بقوة، وقلت بثبات:

– سنخرج، حتى لو مشينا فوق الجحيم.

وبعد لحظات من التردد، أومأ برأسه. تحركنا سويًا، بصمت ثقيل، وقلوب مفعمة بالخوف.

في نهاية الممر... وجدنا صندوقًا خشبيًا ضخمًا، غارقًا في الغبار والرماد. كانت عليه نقوش تشبه الأفاعي المتشابكة، وحروف محروقة.

فتحناه بشق الأنفس، فتحت الغطاء ببطء... صريره كان كأنين ميت يستيقظ.

بداخل الصندوق:

رموز مبعثرة، أعشاب سوداء، أوراق مهترئة، وكلمة محفورة على الخشب:

"واحد فقط ينجو... الآخر يُمحى."

ثم ظهرت ورقة كبيرة، مكتوب عليها بخطٍ غريب:

"إن أردتما المفتاح... فأمامكما لعبة الأرواح. إن فشلتما... ستبقيان هنا... إلى الأبد."

نظرت إليه، ورأيت الخوف ينهش وجهه... لكنني قلت بهدوءٍ مرعب:

– لن أخسر نفسي هنا... لن أكون رقماً آخر في قائمة هذا الكابوس.

والآن... بدأت اللعبة.

شعّ ضوء خافت من داخل الصندوق، بدا كأنه ينبض بنبضٍ خاص به... كقلبٍ شرير لا يعرف الرحمة. سحبنا الورقة الأولى، كانت مليئة بالرموز، غير مفهومة، ولكنها بدأت تتحرك أمام أعيننا... تتحوّل إلى كلمات نعرفها.

"اللغز الأول: أنتما اثنان... ولكن واحد منكما يحمل ظل الآخر. من منكما هو الأصل؟"

نظرت إليه برعب. ماذا يعني؟ هل أحدنا ليس حقيقيًّا؟ ارتبك، ثم قال بصوت متقطع:

– إنهم يريدون أن يجعلونا نشك ببعضنا... إن لعبنا لعبتهم، سندخل في جنون لا نهاية له.

بدأت الغرفة تذوب حولنا. الجدران تنحني، الأصوات تتكاثر. صوت امرأة تضحك... صوت طفل يبكي... صوت خطوات تُجر على الأرض.

جاءت ورقة ثانية من داخل الصندوق، دون أن نلمس شيئًا.

"اللغز الثاني: مرآتان... إحداهما تُريك ما تريده، والأخرى تُريك ما يخفيه عنك المكان. انظرا، واختارا الطريق."

التفتنا، فظهرت مرآتان على الجدار الحجري. الأولى كانت واضحة، تُظهرنا نحن فقط. الثانية... كانت معتمة في البداية، ثم بدأت تعرض مشاهد من حياتنا.

رأيت نفسي نائمة، ثم أستيقظ مذعورة... ثم رأيت نفسي أدخل هذا المكان، ولكنني كنت وحدي. التفتّ إليه، فلم أره في المشهد...

– لماذا لم تكن هناك؟ متى التقيتك؟

ارتجف وقال:

– لا أعلم... لا أذكر شيئًا قبل هذه الغرفة... ربّما...

قاطعته الورقة الثالثة، ظهرت بيننا فجأة:

"اللغز الأخير: اكشفوا اسم المكان، كي يُفتح الباب. من لا يعرف، يبقى للأبد."

همست:

– اسم المكان؟ جحيم؟ سجن أرواح؟ ماذا يريدون؟

وفجأة... انفتح جدار خلفي من تلقاء نفسه، ظهر ممر طويل مظلم... وفي نهايته، باب معدني صدئ... ومن تحته، يتسرّب ضوء أحمر... نابض.

قال الشاب:

– إمّا أن نذهب الآن... أو نُمحى إلى الأبد.

ومشينا... نحو النهاية المجهولة.

مشينا في ذلك الممر الطويل، وأنا أشعر أن الهواء من حولي يثقل أكثر فأكثر، كأن الظلمة نفسها تتنفس على رقابنا، تهمس لنا بلغة لا نفهمها، ولكن قلوبنا ترتجف منها. كان الشاب يسير أمامي بخطوات ثابتة، لكنه كان يلتفت كل لحظة وكأنه يخشى أن يبتلعه الجدار نفسه.

كلما اقتربنا من الباب، كانت الأصوات تتعالى… صرخات، بكاء، تراتيل قديمة كأنها من زمنٍ مفقود، أصوات أنين لا نعرف مصدرها…

وقفت عند الباب، ووضعت يدي عليه. كان بارداً، لكنني شعرت بحرارة تتسرب منه، كأن خلفه جحيم مشتعل. نظرت إلى الشاب وقلت:

– هل نحن متأكدون من هذا؟

أجاب بنبرة متعبة:

– لا... ولكن لا طريق آخر. إن بقينا هنا سنُنسى... كأننا لم نكن.

فتحت الباب ببطء، فأصدر صريرًا طويلاً مزّق الصمت كالسيف، وانكشفت أمامنا غرفة دائرية واسعة، مضاءة بأضواء خافتة كأنها شموع تحتضر. في منتصف الغرفة، كان هناك صندوق أسود ضخم، كُتب عليه بلغات كثيرة، بعضها مألوف، وبعضها كأنها ليست من عالمنا.

اقتربنا، وإذا بصوتٍ عميق يدوي في الغرفة، لا نعرف مصدره:

"لا يُفتح هذا الصندوق، إلا إذا واجه كلٌ منكما أسوأ مخاوفه."

نظرت إليه، ثم نظرت إلى نفسي… وبدأت الجدران تتحول من جديد. الجدار أمامي صار مرآة ضخمة… ولكن لم أكن أرى نفسي فيها. كنت أرى فتاة صغيرة، بوجهٍ باكٍ، ترتجف في الزاوية، وأصوات تصرخ بها، تدفعها، تهمس لها أنها لا تستحق الحب…

ركعت على الأرض، وضعت يدي على أذني، لكنها لم تتوقف. كانت صور من الماضي تعاد أمامي، بكل أوجاعها، كأن الزمن يُجبرني على ابتلاعها من جديد.

أما هو، فقد كان يحدق في الفراغ، كأن شيئًا ما يُعرض له وحده. وجهه شاحب، عينيه ممتلئتين بالفزع، شفتاه تتحركان بكلمات غير مسموعة.

مرت دقائق كأنها دهر… ثم سمعنا الطنين. الطنين العالي نفسه الذي كان في البداية… ثم صوت الباب يُغلق خلفنا بقوة، كأن لا عودة ممكنة.

ولكن… فجأة، توقف كل شيء. اختفت الصور. عاد النور الخافت. وكان الصندوق قد فُتح.

داخله… كان المفتاح.

لكن المفتاح كان معلقًا في الهواء، وتحت منه، كتاب صغير، أسود، كُتب عليه:

"النجاة لمن لا يقرأ... إلا بعد الساعة العاشرة."

ترددت، وقلت له:

– أهذا فخ آخر؟

أجاب:

– أو… ربما هو الاختبار الأخير.

مددت يدي ببطء… أمسكت المفتاح، فاهتز المكان من جديد، لكن الباب الذي دخلنا منه بدأ يتوهج… فركضنا إليه.

ركضنا كأن الحياة كلّها معلقة في تلك اللحظة. فتحنا الباب… وخرجنا.

لكننا لم نكن في نفس المكان. كنا في غرفة صغيرة، بيضاء تمامًا… لا نوافذ… لا أبواب.

وصوتٌ ناعم يقول من كل الجهات:

"هل تظنّون أن الهروب بهذه البساطة؟"

بدأت الغرفة البيضاء تدور ببطء، كأنها ليست مكانًا بل كابوسًا حيًّا يتنفس ويتلوى من الداخل. كانت الجدران ناعمة، بلا شقوق، بلا أبواب، بلا أدنى ملامح تدل على الخروج. حاولت أن أصرخ، لكن الصوت الذي يملأ المكان كان أعلى من أن يُسمح لأي صوت آخر أن يخرج.

– "هل تظنّون أن الهروب بهذه البساطة؟" – تكرر الصوت نفسه، هذه المرة أقرب، كأنه يهمس في أذني مباشرة، ويمرّ عبر جلدي، لا عبر الهواء.

التفتُ إلى الشاب، كان واقفًا في مكانه، يتنفس بصعوبة، يتصبب عرقًا.

سألته بصوت مرتجف:

– "ماذا الآن؟ هل هذا فخ آخر؟"

أجاب، وقد بان عليه الإرهاق والتعب وكأن أعوامًا مرّت على كتفيه فجأة:

– "لا أعرف... لكن أشعر أن هذه آخر مرحلة… آخر وهم… أو آخر سجن."

ثم حدث أمر غريب… الأرض تحتنا بدأت تتشقق، لا شقوق حقيقية، بل كأنها تتشقق من الضوء، ينفصل البياض إلى خطوط سوداء، كأن النور نفسه صار ضعيفًا، يخوننا.

في لحظة، اختفى كل شيء من حولنا. صرنا في ظلمة كاملة. ظلمة لا يُرى فيها حتى أطراف الأصابع.

ثم… نور خافت بدأ يظهر أمامنا.

رأينا سلّمًا ضيقًا ينزل إلى الأسفل… كانت الخطوات محفورة في الصخر، كأنها قديمة، من زمن سحيق. لم يكن هناك طريق آخر.

قلت:

– "علينا أن ننزل."

هزّ رأسه بصمت، وبدأنا ننزل ببطء.

مع كل خطوة إلى الأسفل، كانت الأصوات تتغير. أنين، ضحكات طفولية، همسات امرأة تبكي، ثم فجأة، أصوات صراخ بعيدة… ثم خرس تام.

الهواء صار أكثر كثافة، كأننا نسبح في سائل غير مرئي، والرائحة... مزيج من العفن والدم والرماد.

بعد وقت لا نعلم كم طال، وصلنا إلى قاعة كبيرة، مغطاة بنسيج أسود على الجدران، تتدلى من السقف سلاسل صدئة، وأرضها مبللة بسائل داكن لم نجرؤ على لمسه. في نهاية القاعة… باب.

باب خشبيّ، لكنه مزيّن بزخارف ذهبية تتوهج كلما اقتربنا. وعلى الباب، كان هناك محفورٌ بخط غريب:

"الخروج ليس لِمن هرب... بل لِمن واجه."

وقفنا أمام الباب. التفتَ إليّ الشاب وسأل:

– "هل نحن مستعدان؟"

قلتُ بصوت خافت:

– "لا أعلم، ولكن… لن نعود."

مددنا يدينا معًا على المقبض… وسحبناه.

انفتح الباب ببطء، وإذا بنور قوي ينفجر في وجهينا، نور أبيض نقيّ، مختلف عن كل نور رأيناه سابقًا.

غطّيت وجهي، وعندما فتحت عيني... وجدت نفسي في الحديقة الخلفية لمنزلنا.

العصافير كانت تغرّد، والنسيم عليل، كأن شيئًا لم يحدث. التفتُ لأجد الشاب بجانبي، ممدّدًا على العشب، يتنفس ببطء، ولكنّه حي.

جلست بجانبه، وقلتُ بصوت مرتعش:

– "هل انتهى هذا فعلاً؟"

فتح عينيه، ونظر إليّ بابتسامة باهتة:

– "إن كنا هنا، فهذا يعني أنّنا استحققنا الخروج."

لكن قلبي لم يهدأ. نظرت حولي، نفس الحديقة، نفس الألوان، نفس رائحة الأرض… لكن… كان هناك شيء مختلف.

نهضنا سويًا، نمشي بخطى حذرة، كأننا نسير فوق ذكريات مشققة.

عدت إلى المنزل، إلى أمي التي فتحت الباب وهي تبكي، احتضنتني وكأنها كانت تنتظرني منذ دهر. سألناها عن الوقت، فقالت:

– "أنتم خرجتم منذ نصف ساعة فقط!"

نصف ساعة؟ كيف؟! ما عشناه كان أيامًا… وربما أكثر.

الشاب الذي كان معي، جلس على حافة السور، يتأمل السماء، وقال فجأة:

– "أنا لا أعرف إن كنا خرجنا فعلاً… أم أن هذا مستوى آخر من الوهم."

لكنني كنت أعرف شيئًا واحدًا فقط…

نحن خرجنا. معًا.

وقد واجهنا ما لم يتجرأ أحد على مواجهته.

وما من مرآة، ولا غرفة، ولا كابوس… سيُخيفنا بعد الآن.

لكنّني ما زلت أحتفظ بالمفتاح.

وفي كل ليلة…

أضعه تحت وسادتي.

وأتساءل…

هل انتهى هذا فعلاً؟

الفصل الثالث

على اتفاقنا.. لاتقرأ قبل العاشرة

مرّت أيّام عدّة منذ أن خرجنا من ذلك المكان الغامض. الشمس أشرقت في كل صباح وكأنها تُعلن انتصارًا صغيرًا جديدًا. الهواء لم يعد خانقًا، وصوت العصافير بات يُشبه الأغاني القديمة التي اعتدناها في طفولتنا. كان كل شيء طبيعيًّا… أكثر مما يجب.

استيقظتُ ذات صباح على ضوء الشمس يتسلّل من نافذتي. الستائر البيضاء تتحرّك بلطافة، كأنها تلوّح لي. على طاولتي كوب قهوة دافئ أعدّته أمّي، تفوح منه رائحة الهيل والفانيليا. جلستُ على الشرفة، أنظر إلى الحديقة. الورود تفتحت، والعصافير تحوم فوق بركة الماء الصغيرة.

رأيته من بعيد. الشاب الذي شاركني المحنة. كان يمشي بخطى واثقة، يلوّح لي بابتسامة خفيفة، كأنّه يقول "نحن بخير". التقيت به عند سور الحديقة. تبادلنا حديثًا بسيطًا، دون أن نذكر شيئًا ممّا حدث.

– "هل تنامين جيدًا؟"

– "نعم… والأحلام؟ لم تعد تزورني."

– "جيّد. أظنّنا نستحق قليلًا من السلام."

كان يحمل دفترًا صغيرًا، وراح يخطّ فيه كلمات لا أعرفها. سألته ما الذي يكتبه، فقال:

– "أدوّن كلّ ما لم أستطع قوله هناك. كلّ الأشياء التي أنقذتني… لأتذكّر."

في المساء، اجتمعنا في الحديقة مع باقي العائلة. الشاي يُغلى على النار، وأصوات الضحكات تتعالى. تحدّثنا عن كلّ شيء… عدا ما حدث. كأننا اتفقنا بصمت أن نترك الماضي في مكانه.

لكن وسط كلّ هذا الهدوء، في داخلي، كان سؤال صغير ينمو ببطء:

"ماذا لو لم يكن هذا سوى البداية؟"

في الأيام التي تلت، بدا كل شيء مثاليًا بشكل يثير الشك. الروتين عاد، والعالم من حولي بدأ يلبس ثوب الطمأنينة. إلا أنني كنت أراقب كل تفصيلة بعينٍ جديدة… كأنّني لا أنتمي إلى هذا المكان، أو كأن هذا المكان لا يزال يخفي شيئًا في زواياه.

ذات مساء، جلستُ في غرفتي، والستائر مسدلة، والضوء خافت. أخرجت من دُرج المكتب ذلك الدفتر القديم الذي أحضره لي الشاب – سامر – عندما التقينا أول مرّة بعد الحادثة. كان دفترًا بجلدٍ بنيّ باهت، قديم الطراز، تفوح منه رائحة الغبار والذكريات المدفونة. لم أفتحه من قبل، ربما كنت خائفة من أن أقرأ فيه شيئًا يعيدني إلى الخلف، إلى ذلك الليل المظلم. لكن في تلك الليلة… فتحت الصفحة الأولى.

لم يكن فيها سوى كلمة واحدة: "راقبي."

ارتجف شيءٌ بداخلي. قلبي؟ أو ربما ذاكرة لم أكن أعرف أنني أملكها. قلّبت الصفحة الثانية، كانت مرسومًا فيها دائرة، وفي وسطها عين مفتوحة… لا كتابة. لا تفسير.

أغلقت الدفتر. لم أتحمل. لكنّي أدركت شيئًا مهمًّا في تلك اللحظة. الهدوء الذي نعيشه ليس طبيعيًا… هو أشبه بستارٍ شفاف يغطي شيئًا متربصًا. شيء ينتظر اللحظة المناسبة ليظهر.

في اليوم التالي، خرجت في نزهة مع سامر. جلسنا في حديقة عامة، وتحت شجرة بلوط عتيقة بدأ يتحدث.

– "هل بدأتِ تشعرين بأن كل شيء… مثالي أكثر من اللازم؟"

– "بالضبط… كأننا داخل حلم مريح، لكننا نعرف أنه سينكسر."

– "هناك شيء في الجو. في العيون التي تنظر إلينا. في طريقة حركة الناس."

– "هل فتحت الدفتر؟"

– "صفحة واحدة فقط. مكتوب فيها… 'راقبي'."

نظر إليّ بحدّة، ثم أخرج من جيبه ورقة مطوية.

– "هل تعلمين ما وجدتُ في صندوق البريد صباح اليوم؟ هذه."

فردّ الورقة أمامي. كانت مطبوعة، دون توقيع. فيها عبارة قصيرة فقط:

"ستُفتح الأبواب مرّة أخرى عند تمام الساعة العاشرة."

تجمدتُ. نفس الجملة… التي كانت تهمس بها تلك الفتاة… التي لم تعد كابوسًا بل ذاكرة حقيقية.

عدت إلى المنزل، وأنا أشعر وكأن خطواتي تُسحب بثقل. كان كل شيء كما تركته. أمي في المطبخ، تحضّر العشاء. أبي يشاهد التلفاز. لكني لم أستطع تجاهل الشعور الذي كان يملأ صدري: "أننا مراقبون".

في تلك الليلة، جلستُ أمام المرآة. لم أكن أنظر إلى انعكاسي، بل كنت أبحث في عمق الصورة… كأنني أتوقع ظهور شيء… أو أحد.

لم يظهر أحد. لكني لاحظت شيئًا جديدًا. على حافة المرآة، خُدش لم أره من قبل. اقتربت. كانت هناك كلمات صغيرة جدًا محفورة عليه بالكاد تُقرأ:

"ليس كل ما غادر، قد انتهى."

ارتجف وجهي. لم يكن هذا موجودًا من قبل… أنا واثقة. نظرتُ إلى ساعتي… كانت التاسعة وأربعين دقيقة.

قلبي بدأ يخفق بسرعة. خرجتُ من الغرفة، جريت إلى هاتف سامر. اتصلت به.

– "سامر… الساعة تقترب."

– "أعرف. أنا في طريقي إليكِ."

جلسنا معًا في غرفتي. صمت. عيوننا على الساعة. تسع وخمسون دقيقة… ثم العاشرة تمامًا.

مرت الدقيقة… ولم يحدث شيء.

ثم… سمعنا طرقًا خفيفًا… ليس على الباب. بل على النافذة.

فتحت الستارة ببطء. لا أحد.

لكن على الزجاج من الخارج… كان هناك كتابة باهتة بخط غير بشري:

"أنتم لم تخرجوا بعد."

ارتدّت أنفاسي إلى داخلي. نظرتُ إلى سامر، وعيونه تملؤها الدهشة.

– "هل تراها؟"

– "نعم."

– "ماذا يعني هذا؟"

– "لا أعرف… لكننا يجب أن نبحث عن الإجابة."

بدأت تلك الليلة بفوضى جديدة من الأسئلة. لم ننم. بقينا في الغرفة نبحث في دفاتره، وفي رموزٍ قديمة كان يجمعها منذ فترة، منذ أن بدأ يشعر أن شيئًا غريبًا لم ينتهِ بعد.

وفي وسط هذا البحث، وجدنا خريطة… صغيرة… رسمٌ لبيت قديم… لا يشبه أي شيء في محيطنا.

لكن تحت الصورة، كانت هناك عبارة صغيرة:

"المكان الأخير. إن أردتم حقًا النجاة."

نظرتُ إلى سامر.

– "هل أنت مستعد؟"

– "أكثر من أي وقت مضى."

وهكذا، بدأنا نستعد لرحلة جديدة… رحلة لا نعلم إن كانت النهاية الحقيقية، أم بداية لما هو أعمق وأظلم… فصلٌ جديد، سيُكتب فيه كل شيء.

في اليوم التالي، خرجت مع سمير إلى مقهى هادئ في أطراف المدينة، جلسنا قرب نافذة تطلّ على الشارع، وأمامنا طاولة صغيرة وُضِعَت عليها قائمة الطعام وبعض أدوات التقديم. كان الجو هادئًا، لكن رأسي مزدحمٌ بما لا يُطاق.

تحدثنا قليلًا، عن كل ما حصل، عن الهروب، عن تلك الليلة، عن الظلال والمرآة، عن الشيخ... عن الساعة العاشرة. كنت أستمع له، أومئ برأسي، أحاول البقاء متماسكة، لكن داخلي كان ينهار.

وفجأة، اختنق صوتي، امتلأت عيناي بالدموع، مددت يدي ببطء نحو السكين الصغيرة الموضوعة بجانبي... وحدقت فيها للحظات. صوته كان بعيدًا، كأنني أغوص تحت الماء.

"لا!" صرخ سمير، لكن الوقت كان قد فات... غرزت السكين في بطني ببطء، شعرت بوهج الألم، وبدأ كل شيء يذوب حولي، يتلاشى...

سمير حملني مباشرة وركض بي خارج المقهى، صوته يرتجف وهو يصرخ ويطلب المساعدة. أوصلني إلى المستشفى بسرعة، واتصل بعائلتي، أخبرهم أن حالتي خطيرة، وأنني بين الحياة والموت.

دخلت في غيبوبة. مضت أيام... ثم أسابيع. لم أفتح عيني. زارني الجميع، بكت أمي عند رأسي كل ليلة، وكان والدي يتمتم بالأدعية. لكن لا شيء تغير. بقيت معلقة بين عالمين.

وفي ليلة صامتة، بينما كان سمير يهمّ بالنوم على الأريكة في غرفته... رأى حلمًا غريبًا. كانت هناك، تلك الفتاة ذات الوجه المخيف والابتسامة الشيطانية... " نظرت إليه بعينين لا حياة فيهما، واقتربت منه بهدوء.

همست له بصوت متقطع:

"أنا من جعلتها تطعن نفسها... كنتُ داخلها... تلاعبت بعقلها...

لكن إن أردتها أن تعيش... فعليك أن تموت."

تراجع سمير في المنام، لكنها أمسكت به وهمست مجددًا:

"هناك لغز... عليك حله. يوجد في ذاك المكان القديم... وراء المرآة... خلف العدم...

افعلها... أو لن تفتح عينيها أبدًا."

استيقظ مذعورًا، وجهه شاحب، يديه ترتجفان. لم يتردد. نهض فورًا، جهز نفسه، وخرج دون أن يخبر أحدًا. قال في نفسه:

"إذا كان عليّ أن أموت... ليكن، المهم أن تعيش."

ذهب إلى المكان الذي دلّته عليه، واجه ظلالًا، ألغازًا لا تفسير لها، أصواتًا تعوي في الظلمة، وكأن الأرواح كلها اجتمعت لتعذّبه قبل النهاية. لكنه قاوم، قاتل، بكى، وواجه... حتى وصل إلى النهاية.

وفي اللحظة التي حلّ فيها اللغز الأخير... توقف قلبه.

وفي ذات اللحظة، فتحتُ عيني.

كانت غرفتي في المستشفى هادئة، لكن الهواء كان مختلفًا، كأن شيئًا عظيمًا قد حدث. رأيت وجوه أهلي، رأيت الدموع تتحول إلى دهشة، سمعت صراخ أمي، حضن أبي، لكن قلبي كان يبحث عنه.

"أين سمير؟" سألتهم.

نظرت إليهم، وجوههم بيضاء لا تعلم شيئًا.

كررت سؤالي: "أين هو؟"

لكن لم يكن هناك جواب.

بدأت أتذكر... الحلم... رأيت كل شيء. رأيته يذهب. رأيته يموت. رأيته يضحي لأجلي.

فهمت... شهقت، وانهرت باكية.

ضحى بحياته ليمنحني فرصة جديدة.

حضنني أبي بقوة، وقال: "سيعود... ربما فقط تأخر قليلاً."

لكنني كنت أعلم... لن يعود. لأنه اختار أن أعود أنا.

ورحت أبكي بصمت... بينما كانت روحه تبتعد، بسلام.

مرت أيام عدة على صحوتي، وأصبح العالم من حولي يبدو مختلفًا. لم أكن أستطيع نسيان سمير، تلك التضحية التي قدمها بكل شجاعة، التي أخذت منه كل شيء ليمنحني فرصة جديدة للحياة. وفي كل لحظة، كنت أشعر بعينيه في داخلي، وكأنني أحمل جزءًا منه في روحي.

لكن، في أحد الأيام، عندما زارني أهلي في المستشفى، أدركت أن شيئًا قد تغير. لم أعد أرى تلك الظلال التي كانت تلاحقني، ولم أسمع همسات ذلك الكائن المرعب الذي كان يعيش في ذهني. اللعنة... اللعنة التي ظلت تطاردني لوقت طويل، كانت قد انتهت أخيرًا.

رغم الحزن الذي كان يغمرني، شعرت بشيء من السلام الذي لم أكن أعتقد أنه سيأتي. تلك العواقب المرعبة، تلك القوى الظلامية التي كانت تتحكم في مصيري، كانت قد اختفت. كل شيء بدأ يعود إلى طبيعته، لكن دون أن أنسى أبدًا تضحيات سمير.

كان مظهر السماء في ذلك اليوم صافياً، والهواء كان يملأ صدري برائحة جديدة، كأنني كنت أتنفس لأول مرة. كان الأمر وكأنني كنت محبوسة في عالم آخر طوال تلك الفترة، لكن الآن، وبعدما رحلت اللعنة، أصبح بإمكاني أن أعيش بحرية من جديد.

لكن حزنًا كان يملأ قلبي على سمير، ذلك الشاب الذي ضحى بحياته من أجل أن أعيش أنا. ربما كان في قرارة نفسه يعلم أن تلك كانت الطريقة الوحيدة لإنهاء تلك المعركة التي كانت قد طال أمدها.

وفي النهاية، فهمت أن ما حدث كان بمثابة تضحية عظيمة، وأنه لولا سمير لما كنت هنا اليوم. وبدأت أعيش حياتي الجديدة بأمل، مع علمي أن اللعنة قد انتهت أخيرًا، وأنني أستطيع أن أبدأ من جديد، بعيدًا عن الظلال التي كانت تحيط بي.

مرت أسابيع عدّة منذ مغادرتي المستشفى، وعادت حياتي شيئًا فشيئًا إلى مسارها المعتاد. تغيّر الجو في المدينة، وكأنّ العالم قرر أن يمنحني شيئًا من السكينة. كنت أجلس كل صباح في شرفة المنزل، أرتشف كوبًا من الشاي بالنعناع، أراقب المارّة في الشارع، الأطفال يركضون ويضحكون، الجيران يتبادلون التحايا، والطيور تحوم في السماء كأنّها تبشر بيومٍ هادئ.

لكن داخلي… لم يكن بهذا الهدوء. ظلّ اسم "سمير" يطرق رأسي بين الحين والآخر. أفكّر كثيرًا: كيف لإنسان أن يقدّم روحه فداءً لغيره؟ لم أجد جوابًا شافيًا، لكنني كنت أعلم أنّه فعل ذلك بمحبةٍ صادقة، وأنّه لم يتردّد للحظة.

في أحد الأيام، خرجتُ مع والدتي إلى السوق. كانت الشمس دافئة، تلامس وجوه الناس بلطف، والبائعون ينادون على بضائعهم بأصواتٍ عالية مفعمة بالحيوية. وبينما كنا نتجوّل بين المحالّ، قالت لي والدتي وهي تختار بعض الفاكهة:

أمي:

– "ابنتي… أراكِ أكثر هدوءًا، وكأنّ في قلبك شيئًا من السلام."

أنا:

– "ربما لأنّ الظلمة التي كانت تسكنني قد انقشعت أخيرًا… لكن الألم لم يزل بعد."

أمي (بابتسامة حزينة):

– "ما زلتِ تفكرين فيه، أليس كذلك؟"

أومأت برأسي، دون أن أنطق بكلمة.

، وما إن جلسنا.. فتحت دفتري القديم الذي كان معي لا يفارقني.. أمسكت قلمي، وبدأت أكتب رسالة لن تُقرأ، لكنني احتجت أن أبوح بها:

"سمير…

أنا بخير الآن. لا أعلم كيف أعبر عن امتناني، ولا أعلم إن كانت الكلمات تكفي. لكنني أعدك… سأعيش حياةً مليئة بالنور والخير، فقط لأجلك. سأضحك حين يتوجب أن أضحك، وسأحلم وأمضي قُدمًا… سأحملك في قلبي دومًا، في كلّ تفاصيل يومي، وكل خطوة أخطوها. ربما غابت عني ملامحك، لكن روحك ما زالت تنير طريقي."

أغلقت الدفتر، وبعدها.. جاء النادل وسألني:

النادل:

– "كوب القهوة المعتاد؟"

– "نعم، كما في كلّ مرة."

نظرت عبر الزجاج، تأملت المارّة، وعاد بي التفكير إليه… "سمير"، ذلك الذي اختار أن يرحل ليبقى النور في قلبي. أدركت أن الحياة لن تنتظر أحدًا، وأنّه… وإن كان الغائب جسدًا، فالحاضر روحًا، لا يُنسى.

الفصل الرابع

ضوء بعد العاصفة

المكان هادئ، تغمره رائحة الورق القديم والحبر، وتمتزج فيه

أصوات الصفحات المتقلِّبة بصمتٍ يشبه الصلاة. كانت المكتبة صغيرة، لكنها دافئة، وكأنها حضن المدينة لمن تعبوا من ضجيجها. كانت خطواتها بطيئة، تتنقّل بين الرفوف كأنها تبحث عن ذاكرة ضائعة بين صفحات الكتب.

كانت عيناها شاردة، تتأمل عناوين الروايات القديمة، توقّفت أمام كتابٍ عنوانه "رسائل من الغائب"، فمدّت يدها بتردد وأمسكته بلطف، كما لو أنّها تلامس شيئًا هشًّا من الماضي.

وفجأة، امتدت يد أخرى نحو الكتاب ذاته.

رفعت نظرها بخفة، لتجد شابًا في أواخر العشرينات، يرتدي معطفًا رماديًّا ونظارة دائرية، ووجهه يفيض هدوءًا. ابتسم بلطف وقال:

— "أعتذر، يبدو أنّ ذوقنا في الكتب متشابِه."

ردّت بصوت خافت، لكنه ثابت:

— "لا بأس، يمكنني أن أقرأه لاحقًا."

هزّ رأسه نافيًا:

— "بل العكس، أنا أحبّ الانتظار حين يتعلّق الأمر بكتابٍ جيد. يبدو أنك بحاجة إليه أكثر منّي."

تأمّلته لبرهة، ثم قالت بابتسامة حزينة:

— "أحيانًا، لا نقرأ الكتاب من أجل مضمونه، بل من أجل شخصٍ ذكرنا به."

ساد صمتٌ صغير، ثم قال بهدوء:

— "الكتب تُخبّئ الأرواح. أحيانًا نقرأ كي لا ننسى."

جلست على مقعدٍ خشبي في زاوية المكتبة، والكتاب في يدها. ولدهشتها، جلس هو على المقعد المقابل، بعد أن حمل كتابًا آخر، وفتح صفحاته بتركيز. لم ينظر إليها، ولم يسأل. فقط جلس هناك، بهدوء، وكأنه يفهم أنّ في الصمت راحة لا يمنحها الحديث.

مرّ الوقت وهما يقرآن. كانت كل بضع دقائق تنظر نحوه خلسة، فتجده مندمجًا، كأنّه قطعة من هذا المكان. وفي قلبها، شعرت بشيءٍ يتفتح… ليس حبًّا، بل إحساس بأن الحياة لا تزال تملك شيئًا لتمنحه، بعد كل ما سُلب منها.

وضعت الكتاب في حجرها، وقالت بصوت منخفض:

— "هل تعتقد أنّ بعض الأشخاص يُولدون ليُرحلوا، كي يعلّمونا شيئًا؟"

أغلق كتابه ببطء، ونظر إليها بعينين صادقتين:

— "نعم. وهناك من يرحلون ليتركون فينا شيئًا لا يموت. كأنّهم اختاروا أن يبقوا في قلوبنا بدلًا من البقاء على الأرض."

شعرت أن قلبها ضُغط فجأة. تذكّرت سمير. وجهه حين ضحّى بنفسه، حين كان صامتًا لكنه قوي. دمعة صغيرة انسابت على خدها، لكنها لم تكن دمعة ألم… بل امتنان.

نظرت إلى الشاب المقابل وقالت:

— "شكرًا لأنك جلست هنا… من دون أن تسأل."

ابتسم، وأجاب:

— "ربما، لم يكن من الضروري أن أسأل."

ثم عاد كلٌّ منهما إلى كتابه. لكن في داخلهما، صفحة جديدة بدأت تُكتب... صفحة عنوانها: الحياة تستمر، بهدوء، لكن لا تنسى من أحبّتنا.

قال بصوت منخفض وهو يجلس بقربي:

— "أظنّ أنني رأيت الحزن في عينيك… هل تسمحين لي أن أتعرف عليكِ؟"

نظرت إليه، ترددت قليلًا، ثم هززت رأسي بالإيجاب بصمت. لم أقل الكثير، لكن كأن شيئًا في نظراتي فتح له بابًا صغيرًا.

جلس لدقائق يحدثني عن الكتب، عن الحياة، وعن لحظات الهروب من الواقع. كنت أصغي، لكنه كان يراقبني أكثر مما يتكلّم. شعرت بنظراته تتنقّل على وجهي، وكأنّه يقرأني.

قال بعدها:

— "فيكِ شيء… لا يشبه من حولك. شيء جميل رغم كلّ التعب الذي تحاولين إخفاءه."

أخفضت نظري بخجل، وابتسمت دون أن أردّ. كنت أعرف أنه بدأ يشعر بي… بضعفي، بقوّتي، بكلّ ما لا أقوله. ولم أكن أمانع.

اقترب مني أكثر، كانت نظراته مليئة بالإصرار والاهتمام. قال بهدوء:

"أشعر أنّ في عينيكِ شيئًا لا يشبه باقي البشر... حزن عميق، وقهرٌ قديم. لا أستطيع تجاهل هذا، أخبريني، ماذا حدث؟"

خفضت بصري للحظة، تنفست بعمق، ثم تمتمت:

"لا أعلم من أين أبدأ... الأمور التي مررت بها يصعب تصديقها، حتى عليّ أنا."

صمت لثوانٍ، ثم نظرت إليه. كان وجهه ساكنًا، ينتظرني دون أن يقاطع.

تابعت بصوت متهدج:

"فقدتُ شخصًا... لم يكن عاديًا، كان بطلًا، أنقذ حياتي ودفع الثمن غاليًا."

رفع حاجبيه بدهشة وهمس: "مَن هو؟"

قلت بصوت بالكاد يسمع:

"اسمه سمير... ضحّى بنفسه لأحيا. دخل عالمًا مظلمًا لأجلي. كنت أسيرة لعنة لا يفهمها أحد... وكان وحده من فهمني، وآمن بي، وفعل ما لم يجرؤ عليه أحد."

أطرق الشاب رأسه قليلًا، كأن الألم لامس قلبه، ثم نظر إليّ بعينين دامعتين وقال:

"لم أعرفه... لكنني أحترمه من كل قلبي. ليس كل يوم يُولد إنسان بهذه الشجاعة."

ابتسمتُ بخفوت، والحزن ما زال ساكنًا ملامحي. لكن تلك اللحظة، كانت كأنها نافذة جديدة انفتحت في قلبي... نافذة نحو من قد يفهمني يومًا، ويضم الجرح دون أن يخاف من شظاياه.

ابتسم الشاب برقة، وعيناه تعكسان تعاطفًا عميقًا. قال بهدوء:

"أنتِ شخص قوي، هذا واضح في كل كلمة قلتِها. وأنتِ تستحقين السعادة، هذا ما يجب أن أؤمن به. ولكن، أعتقد أن الحياة رغم كل ما مرّ به الإنسان، تظلّ تحمل لنا لحظات جميلة إذا فتشنا عنها."

شعرت بشيء من الراحة في حديثه، كان صوته مليئًا بالطمأنينة، وكأن الكلمات تتسلل إلى أعماق روحي لتخفف بعض آلامي. استدرت إليه بابتسامة صغيرة، محاولًا تغيير مجرى الحديث قليلاً.

"حسنًا، كيف تلاقي الأمور الآن؟ هل تشعر أنّك تجاوزت كل ما مررت به؟"

تنهد قليلاً ثم قال:

"نعم، الحياة علمتني أن نتجاوز كل شيء، مهما كان، وأنه لابد من فتح صفحة جديدة. وليس لأننا ننسى ما مررنا به، بل لأننا نتعلم كيف نعيش بالرغم منه."

تأملت كلماته ووجدت في حديثه شيئًا مريحًا، شعرت وكأنني أستطيع أن أبدأ من جديد. فكرت للحظة، ثم أجبت بلطف:

"ربما تكون محقًا... لكن في بعض الأحيان، علينا فقط أن نسمح لأنفسنا بالراحة، أليس كذلك؟"

ابتسم لي، وقال:

"بالطبع، لا يجب أن نكبت مشاعرنا، ولا يجب أن نواجه الحياة بمفردنا. ولهذا، نحن هنا معًا، نتقاسم اللحظات، سواء كانت جميلة أو صعبة."

شعرت في تلك اللحظة بشيء مختلف في داخلي، شيء يشبه الأمل، شيء يجعلني أعتقد أن الحياة يمكن أن تعطي فرصًا أخرى، حتى بعد كل شيء.

عندما نظر إليّ بعيون هادئة، قال:

"دعينا نذهب إلى مكان جديد، مكان يمنحنا الراحة. ربما مجرد مكان هادئ بعيد عن كل ما حولنا."

رددت مبتسمة:

"أعتقد أنّ هذا سيكون فكرة جيدة، أريد أن أرى العالم من زاوية جديدة، بعيدًا عن كل شيء مألوف."

وقفت، وهو تبعني بخطوات هادئة، ونحن نسير في شوارع المدينة التي لا تهدأ.

كان الجو هادئًا، والمدينة تبدو وكأنها تسبح في سكون غريب رغم حركتها الدائمة. خطواتنا كانت تتناغم مع إيقاع الشارع، وتبقى الكلمات بيننا قليلة، ولكن المعاني التي كانت تحملها ثقيلة وعميقة. كان الحديث بيننا عن الحياة، وعن الأمل، وعن الحاجة إلى التحرك للأمام رغم كل شيء.

وصلنا إلى حديقة صغيرة، بعيدة عن صخب المدينة، حيث الأشجار التي تتمايل مع النسيم، والأزهار التي تتناثر هنا وهناك. جلسنا على مقعد خشبي تحت شجرة كبيرة، وكان الجو باردًا بعض الشيء، لكن الهواء المنعش كان يضفي علينا شعورًا بالسلام الداخلي.

قال الشاب بنبرة هادئة وهو ينظر إلى السماء التي بدأت تلوح فيها أولى نجوم الليل:

"أحيانًا، كل ما نحتاجه هو لحظة من الهدوء لنتنفس بعمق، وندع أفكارنا تتناثر بعيدًا عن القلق والتوتر."

قلت وأنا أراقب النجوم:

"ربما يكون ذلك هو كل ما نحتاجه بالفعل. أحتاج لحظة صمت في حياتي، بعيدًا عن كل الدوامات التي مررت بها."

ثم أضاف، وهو يلتفت إليّ:

"أنتِ شخص قوي، لكن الحياة لا تقدر على أن تأخذ كل شيء منك، بل ربما تعطينا الفرص لنكون أفضل."

شعرت بشيء غريب يسري في داخلي، كان كأن الأفق يتسع لي، وأن الطريق أمامي يمكن أن يكون مليئًا بالفرص التي لم أكن أراها من قبل. لكنني أيضًا كنت أعرف أن هذا لا يعني أن الماضي لن يظل هناك، لكن ربما يمكنني أن أتغلب عليه.

قلت وأنا أبتسم برفق:

"أعتقد أنني بحاجة للوقت، للتفكير في كل شيء. لكنني أريد أن أصدق أن هناك فرصة جديدة في كل شيء."

ابتسم لي الشاب وقال:

"وأنا هنا إذا كنتِ بحاجة إلى شخص لتتحدثي معه، أو إذا أردتِ أن تشاركي أي شيء. الحياة لا تكتمل إلا عندما نتقاسمها مع من يقدروننا."

كان حديثه مريحًا، وكأنني لا أحتاج أن أتكلف في قول ما أريد. كان يشجعني على التفكير والتحدث بحرية، ولم أكن أجد صعوبة في ذلك. شعرت لأول مرة أنني قادرة على المضي قدمًا، وأنني لست مجبرة على أن أتحمل وحدي كل ما مررت به.

بقيت أفكر في كلامه طويلاً، وحين جاء وقت مغادرة الحديقة، شعرت أنني أخف قليلًا. ربما كانت تلك لحظة صغيرة، لكنها كانت تحمل لي الكثير.

وحتى ونحن نغادر الحديقة، كان الصمت بيننا مريحًا. لم يكن بحاجة إلى كلمات إضافية. كان يكفي أن نكون هناك، نتنفس نفس الهواء ونستمتع بوجودنا في لحظة من الهدوء. كانت خطواتنا تتناغم مع الأرض، وكل واحد منا يحمل في قلبه أفكارًا غير معلنة، لكننا شعرنا بأننا معًا في هذا اللحظة.

عندما وصلنا إلى زاوية الشارع، حيث تتلاقى أنوار المدينة مع الظلال الطويلة للمنزل، توقف قليلاً وقال:

"إذا كنتِ بحاجة إلى أي شيء، لا تترددي في طلبه. الحياة، كما قلتِ، بحاجة إلى فرصة، ولا يجب أن نضيع تلك الفرص."

نظرت إليه وابتسمت برفق. كانت كلماته بمثابة مرفأ آمن وسط بحر من الرياح العاتية التي كنت أواجهها.

"شكرًا لك. لا أعرف كيف أصف ذلك، لكنني أشعر بشيء مختلف الآن، وكأن الأمور قد بدأت تتغير."

ثم تابع وهو يشير إلى الطريق:

"كل شيء يبدأ بخطوة. ربما تكون هذه الخطوة الصغيرة هي البداية لشيء جديد في حياتك."

"آمل ذلك," أجبت وأنا ألتفت لأسير على الطريق. "آمل أن تكون بداية لشيء يعيدني إلى نفسي."

تبادلنا النظرات للحظة، ثم تابعنا السير ببطء في اتجاه مواقف السيارات. كان الهواء باردًا قليلاً، لكن النسمات كانت تخفف من ثقل الصمت. لم يكن بحاجة إلى الكثير من الكلمات ليعلم أنني قد بدأت أفكر في الأشياء بشكل مختلف.

وصلنا إلى سيارته، ففتح الباب وقال لي بابتسامة هادئة:

"أرجو أن تكوني قد حصلت على ما تحتاجين من هذا اليوم، وأن تستطيعي الراحة قليلاً."

أومأت برأسي، وقلت:

"بالفعل. كانت هذه لحظة مفيدة، شكراً."

ركبت السيارة وهو أدار المحرك، ومع تحرك السيارة على الطريق المضاء بأنوار المدينة، شعرت لأول مرة منذ زمن بعيد بأن الحياة يمكن أن تكون أخف، وأني قادرة على العيش من جديد.

طوال الطريق، كان يسرق النظر إليّ بين الحين والآخر، وكأنه يحاول قراءة ما أخفيه خلف صمتي. أما أنا، فكنت أنظر عبر النافذة، أراقب أضواء الشوارع وهي تمرّ كأنها أطياف ذكرياتٍ لم تكتمل. ومع كل لحظة صمت، كنت أشعر أن شيئًا بيننا يتكوّن بهدوء، دون استعجال، كأن الزمن نفسه قرر أن يمنحني هدنة قصيرة.

فجأة، قطع الصمت بصوت خافت:

"أتعلمين... لم أكن أتوقع أن ألتقي بشخص مثلك اليوم. هنالك شيء في عينيك... كأنهما تحملان قصة لم تُروَ بعد."

نظرت إليه، للحظة شعرت أن قلبي يرتجف، ثم ابتسمت قليلاً وقلت:

"ربما... لكن القصص لا تُروى بسهولة، خاصةً إن كانت موجعة."

أومأ برأسه بتفهّم، وقال:

"لن أطلب منكِ أن تتكلمي الآن، ولا غدًا. فقط... إن شعرتِ يومًا أنكِ تريدين الحديث، سأكون حاضرًا."

شعرت بشيء دافئ في داخلي، مزيج من الامتنان والراحة، وكأن كلماته لمست شيئًا عميقًا في قلبي.

حين وصلنا، أوقف السيارة بهدوء ثم نظر إليّ مبتسمًا:

"أتمنى لكِ ليلة هادئة، خالية من الذكريات المتعبة."

أجبته بابتسامة صادقة:

"ولك أيضًا... وشكرًا لأنك كنت موجودًا اليوم."

ترجلت من السيارة، وعندما بدأت أسير نحو باب المنزل، سمعت صوته يناديني بخفة:

"هل أراكِ غدًا؟"

التفتُّ إليه، والابتسامة لا تزال على وجهي:

"ربما... إن شاء الله."

ثم دخلت المنزل، أغلقت الباب بهدوء، ووقفت للحظة في الممرّ... شعرت أن قلبي أقل ثقلاً، وكأن روح سمير، في مكانٍ ما، تبتسم لي برضا.

صعدت الدرج ببطء، ويداي تمسكان بحافة الدرابزين كأنني أستند على لحظة جديدة بدأت تتشكّل في حياتي. دخلت غرفتي، وأغلقت الباب خلفي برفق. كانت الغرفة هادئة، والهواء ساكنًا إلا من أنفاسي المتقطّعة.

جلست على حافة السرير، وعيناي تحدّقان في السقف. استعدت كل ما حدث منذ اللقاء في المكتبة... طريقة حديثه، نظراته، وحتى صمته الذي كان أحنّ من كثير من الكلمات. شيءٌ ما فيه منحني شعورًا لم أختبره منذ وقتٍ طويل: الأمان.

مددتُ يدي نحو الدفتر الذي أكتب فيه، وبدأت أخطّ بعض الكلمات:

«في حياتي، لا شيء كان صدفة. حتى الألم كان يحمل رسائل خفيّة. واليوم، شعرت ولأول مرّة، أنّ قلبي قد يستسلم للراحة، ولو لبرهة. ربما لأنّ هناك من رأى حزني دون أن أسأله، وسمعه دون أن أنطقه.»

أغلقت الدفتر ببطء، ثم تماديت بالجلوس عند النافذة. الليل كان ساكنًا، والنجوم تتلألأ بخجل. فكّرت في سمير، وابتسمت، وكأنّي أقول له بصوت داخلي: "لقد تركت لي النور الذي ينير عتمتي... وأنا أحاول، أعدك أنني أحاول."

وفجأة، تذكرت وجه الشاب، اسمه لم أنسه، رغم أنني لم أكرره. كريم. نعم، كان مختلفًا. لم يحاول الدخول بقوة، بل وقف على العتبة بلطف، ينتظر أن أفتح له أبواب ثقتي.

تمددتُ على السرير، وسحبت الغطاء عليّ. الليلة لم أشعر بالخوف... بل شعرت أن هناك بداية جديدة تُكتب بهدوء.

وغفوتُ وأنا أبتسم.

استيقظتُ في الصباح التالي على ضوء الشمس المتسلل برقة من بين ستائر النافذة، كأنّه يدعوني ليومٍ جديد لا يشبه ما قبله. شعرت بشيء خفيف في صدري، كأنّ العبء الثقيل الذي لازمني طويلاً بدأ يتلاشى، شيئًا فشيئًا.

نهضتُ بهدوء، توضّأت، وصلّيت، ثم جلستُ أمام المرآة أمشّط شعري ببطء. نظرت إلى نفسي طويلاً... لأول مرة منذ فترة، لم أرَ فتاة مكسورة، بل رأيت بدايات الشفاء في عينيها.

رنّ هاتفي. كانت رسالة من كريم

 "صباح الخير، هل تودين أن نلتقي اليوم؟ المكتبة تفتقد وجودك."

ابتسمت رغماً عني. أجبتُه:

 "صباحك هدوء... نعم، أود ذلك."

في المكتبة، جلسنا معًا كعادتنا الجديدة. كان يحمل معه كتابًا قديمًا، وقال لي:

– "هذا الكتاب كنت أقرأه حين كنت صغيرًا، وأردت أن أشاركه معك."

تصفّحنا صفحاته معًا، وكنّا نضحك أحيانًا من الرسومات الغريبة التي فيه، وأحيانًا نصمت، نستمتع بهذا الدفء الهادئ. لاحظتُ أنّ كريم ينظر إليّ كثيرًا، لكنّه لا يقول شيئًا. نظراته كانت تشبه دعاءً لا يُقال بصوت.

ثم قال فجأة، دون تمهيد:

– "هل تعلمين؟ عيناكِ تحملان قصصًا كثيرة. لا أعلم لماذا، لكنّي أشعر أنني أريد البقاء بقربك، فقط لأفهمها، أو ربما لأُشفيها."

سكتُّ قليلًا، نظرت إلى يديه، ثم همست:

– "ربما لأنك تشبه الضوء... وأنا تعبت من العتمة."

ابتسم، ولم يجب. لكنّه مدّ يده ووضعها على يدي، كأنّه يقول: أنا هنا، ولا أريد الرحيل.

في اللحظات الأخيرة من تلك الأمسية، وبينما كنت أهمّ بمغادرة المقهى إلى جانب كريم، شعرت بنسمة هواء دافئة تمرّ من حولي، كأنها لمسة غير مرئية همست لي: "لم تنتهِ بعد..."

التفتُّ فجأة إلى الخلف، دون أن أعرف لماذا. كان الشارع خاليًا، والضوء الأصفر الخافت يتراقص على الإسفلت الرطب. نظرت إلى كريم، فوجدته يحدّق بي بدهشة:

– "ماذا هناك؟"

– "لا شيء... فقط شعرت بشيء غريب..."

مشينا معًا نحو السيارة، وكلانا يصمت تحت وطأة شعور غامض. لكن حين اقتربنا، رأيت شيئًا موضوعًا على غطاء السيارة الأمامي:

كتاب.

نفس الكتاب.

ذاك الذي دفنّاه… الذي حُرق… الذي مات سمير من أجلي كي يُغلق للأبد.

تراجعت خطوة إلى الوراء، عيناي تتّسعان، وكريم يلتقط الكتاب ويتصفحه بسرعة.

همس:

– "هذا… هذا لا يمكن..."

وفجأة، تساقطت من بين الصفحات ورقة قديمة، مكتوب عليها بخط غريب:

"مَن فتح الباب الأول… عليه أن يُغلق الباب الأخير."

وقبل أن ننطق بأي كلمة أخرى، انطفأت الأضواء في الشارع دفعةً واحدة، وغرقت المدينة في صمت مرعب.

تسارعت نبضاتي، وشعرت بكريم يقترب مني خطوة بخطوة، يحمل الكتاب بين يديه كأنّه يحمل قدرنا بأكمله. همس وهو يفتح الصفحة الأولى:

– "لماذا… لماذا عادت؟ من الذي أعادها؟"

لم أُجب. كنت مشدوهة، عاجزة عن التفكير.

وفجأة، تغيرت الكتابة على الصفحة أمام أعيننا…

حروف تتشكل وحدها، كأن يدًا خفيّة تكتب من العدم:

"الساعة اقتربت… وما كان مدفونًا، لن يبقى كذلك طويلاً."

شهق كريم بصوت منخفض، والتفت إليّ قائلاً:

– "ربما… لم تكن اللعنة نهايتنا، بل كانت بدايتنا."

نظرت إليه، وإلى الكتاب، ثم إلى السماء التي غطّاها الغيم الأسود فجأة…

وشيء داخلي، شيء لم أستطع تسميته، استيقظ مجددًا.

ولم يعد هناك مفرّ.

وما كُتب… لم يُقرأ بعد.

الى الجزء الثاني ...

جينكولتار

Greated by ruba salkini