استيقظت بغداد ذلك الصباح وهي تغمرها رائحة الخبز الساخن، تمتزج مع أنفاس نهر دجلة العريقة. لم تكن الشمس مشرقة فحسب، بل كانت تطيل دفئها، ككفٍّ حنونٍ يستريح على رؤوس الملايين الذين يعملون تحتها. ومع ذلك، في ساحة المقياس الكبير، كان دفئها أشدّ، كأنها تراقب، كما لو أن السماء نفسها تحبس أنفاسها.
كان السلطان بن سالم يقف بين الحشد.
بدا عاديًا، عاديًا جدًا بالنسبة للقلق الذي يعتصر صدره. كانت ملابسه بسيطة، تفوح منها رائحة منزل قديم. كانت يداه، اللتان تحملان ندوب سنوات من العمل الشريف، ترتجفان رغم محاولته كبح جماحهما. لم يتمنَّ سلطان يومًا العظمة. كل ما أراده هو أن تؤكد له البلورة أنه شيء صغير، شيء آمن، حتى يتمكن من العودة إلى منزله ويترك الحياة تستمر كما كانت دائمًا.
لكن قلبه خانه، يدق كطبول حرب بعيدة. في أعماقه، كانت روحه تعرف الحقيقة التي رفض عقله قبولها.
همس صوت من خلفه: "سلطان... أرخِ قبضتك. ستسحق أصابعك قبل أن تلمس البلورة حتى."
التفت إلى صديقه لكنه لم يجد الكلمات. كان فمه جافاً، ونفسه متقطعاً.
"لا أعرف لماذا،" همس أخيراً، "لكن يبدو الأمر كما لو أن الأرض تحت أقدامنا تنتظر... كما لو أنها تعرف شيئاً لا نعرفه."
تم استدعاء اسمه.
تقدم السلطان. كان العمود البلوري شامخاً في وسط المنصة، لا تشوبه شائبة، لا يرحم. لقد حكم على آلافٍ قبله، مانحاً البعض مستقبلاً وحاكماً آخرين على الضياع. وضع يده اليمنى على سطحه البارد المصقول.
توقف العالم.
لم يكن هناك توهج خفيف. لم تكن هناك استجابة مدروسة.
بدلاً من ذلك، تحطمت الحقيقة.
تدفق الجليد في عروقه، حادًا ومخدرًا، ليتبعه لهيب نارٍ عاتيةٍ أحرقت الهواء من حوله. عوت الرياح في أذنيه، تصرخ ككائن حي، بينما ضغط ثقلٌ لا يُطاق على ذراعيه - كما لو كان يحمل الجبال نفسها.
لم يكن هذا مجرد قوة.
كان ذلك بمثابة تقدير.
انطلق ضوء أزرق ساطع من المنصة، مخترقًا الساحة ومخترقًا سماء بغداد كشفرة أسطورية. كان الصوت الذي أعقبه مرعبًا - مزيج من الرعد وزئير الوحوش وانهيار الحجارة. في أرجاء المدينة، تجمد الناس في أماكنهم، ونظرت أعينهم إلى الأعلى في صمت مذهول.
لم يكن هذا حريقًا كما يعرفونه.
ليس ماءً.
ليس رياحاً ولا أرضاً.
كان شيئًا أقدم - شيئًا لا ينبغي أن يكون موجودًا.
«مستحيل...» صرخ أحد القادة، وهو يتراجع للخلف متعثراً، ويحجب عينيه عن الإشعاع الزمردي والبنفسجي المتداخل. «لا يمكن لهذا المزيج أن...»
ابتلع الضوء كلماته.
وسط الفوضى، شعر سلطان بأن جسده بدأ يتغير.
فقد شعره الداكن لونه خصلةً خصلة، يتلاشى كأوراق الخريف، حتى انسدل بياض فضي حول وجهه، متوهجًا خافتًا تحت ضوء الغروب. احترقت عيناه، ثم انفتحتا على زرقة عميقة لا نهاية لها. عيون لم تعد ترى بشرًا أو حجارة، بل القوانين الخفية التي تربط العالم ببعضه.
عندما عاد الصمت أخيرًا، كان السلطان جاثيًا على ركبتيه يلهث. كان العرق يتصبب من وجهه، ويتجمع في خصلات شعره الفضية. أما العمود البلوري - الذي لم يتغير منذ قرون - فقد تحطم عند قدميه، وتحول إلى شظايا هامدة.
في مكان مرتفع، خلف الشرفات المظلمة للقصر الإمبراطوري، كان رجل يراقب المشهد بهدوء مرعب.
المفوض يزنبيرت.
لم يكن هناك أي انبهار في تعابيره. لا عجب. مجرد حسابات.
حيث رأى الآخرون معجزة، رأى هو شرخاً.
قال يزنبرت ببرود لسكرتيرته: "أحضروا الصبي إليّ".
"وأبلغوا الإمبراطور أن النظام قد أنتج... خللاً."
في الساحة بالأسفل، وبينما كان الجنود يحيطون به، حدق السلطان في يديه المرتجفتين وأدرك أن حياته القديمة قد ولت بالفعل.
لم يعد سلطان بن سالم - الشاب الهادئ العادي - موجوداً.
وحلّ مكانه أسيرٌ للقدر.
شرارة.
وكان يعلم بالفطرة أن الشرر كان يهدف إلى إشعال الحرائق.
وبينما أمسكت أيادٍ حديدية بذراعيه، لم يكن هناك خوف في عينيه، بل كان سؤال واحد فقط يتردد في ذهنه:
لماذا أنا؟
وما الثمن الذي يجب دفعه مقابل الفضة المكتوبة الآن في جسدي؟
