كان ذلك الصباح مختلفًا، رغم أنه بدا عاديًا في كل شيء. الساحة تعج بالطلاب، ضحكاتهم تتداخل مع خطواتهم، وأصواتهم تتشابك في كل اتجاه. شعرت بغربة خفية وسط هذا الصخب، كأنني أراقب العالم من وراء نافذة شفافة لا يمكن لمسها.
اقترب مني صديقي من القسم المجاور، وعيناه تتفحصان المكان بعناية، تبحثان عن شخص محدد. قال لي بهدوء: "هل رأيت تلك الفتاة التي تمشي هناك؟ هي التي أخبرتك عنها."
رفعت بصري نحو المكان الذي أشار إليه، فرأيتها. كانت تمشي بخطوات هادئة، كل حركة فيها تبدو طبيعية، وكأنها لا تشبه هذا الضجيج من حولها. لم أستطع إبعاد نظري عنها، وكأن شيئًا غير مفهوم شدّني إليها.
كانت مختلفة بطريقة غريبة. خطواتها الهادئة وسط الطلاب، ابتسامتها الخفيفة، وطريقة مشيها البسيطة… جعلت كل ما حولي يخفت قليلًا. شعرت وكأن الضوضاء لم تعد موجودة، وأنني أراها وحدي.
كانت لحظة قصيرة، لكنها تركت أثرًا واضحًا داخلي. شعور غريب اجتاح قلبي: دهشة، فضول، ورغبة خجولة في الاقتراب. شعور لم أعرفه من قبل، لكنه بدا حقيقيًا.
مرّت أيام بعد تلك اللحظة في الساحة، لكنني في كل يوم كنت أجد نفسي أبحث عنها بعيني، حتى ولو من بعيد. كنت أشعر بشيء دافئ ومربك يتردد داخلي، لكنه لم يكن كافيًا لأتحدث إليه أو لأقترب منها. وجود صديقي، وحديثه عنها أحيانًا، جعل التجاهل أسهل، وكأنني وضعت مسافة بيني وبين ذلك الشعور، ثم أقنعت نفسي بتجاهله ونسيانه.
لم تكن لدي الجرأة لأخبرها بما أشعر به، ولا حتى لأن أبدأ حديثًا عابرًا معها. في داخلي كان هناك صراع صامت: قلب يريد الاقتراب، وعقل يطالبني بالصبر والتركيز على نفسي أولًا. كنت أعلم أنني معيد السنة، وأن النجاح في الدراسة أهم من أي شيء آخر في هذه المرحلة، لذلك اخترت تجاهل مشاعري ودفنها بين الكتب والملاحظات والواجبات.
كانت المواد صعبة، والاختبارات تتراكم، وكدت أن أعيد السنة الثانية. شعرت أحيانًا أنني على حافة الفشل، وأن جهدي وحده لا يكفي، وأن الواقع أقسى مما توقعت.
مع ذلك، لم أستسلم. بدأت أحاول بجدية أكبر، أذاكر لساعات طويلة، أراجع كل شيء، وأجبر نفسي على الاستمرار. كانت محاولة مرهقة، كل خطوة فيها تبدو ثقيلة، لكن كل تقدم صغير كان يمنحني أملًا صامتًا.
مرّت فترة بعد ذلك، ولم أعد أفكر في الأمر. انشغلت بالدراسة، وامتلأت أيامي بالواجبات والاختبارات، حتى تلاشى ذلك الشعور تدريجيًا. حديثه عنها جعل التجاهل أسهل، وكأن ما حدث في الساحة كان مجرد لحظة عابرة.
في تلك الفترة، لم يكن في داخلي صراع ولا حيرة. كان الصمت اختياري، وكان النسيان حقيقيًا، على الأقل كما ظننت حينها.
وفي النهاية، نجحت… بصعوبة كبيرة، بعد أن اقتربت من إعادة السنة الثانية. كان نجاحًا على الورق، لكنه كان أيضًا نجاحًا داخليًا؛ سيطرة على نفسي، وعلى مشاعري، وعلى ذلك الصمت الطويل الذي اخترته.
لم يُكشف كل شيء بعد… وصمتي لا يزال يحتفظ بأسراره.
